فصل: باب: حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ حَدِيثِ الإِفك

وَالأَفَكِ، بِمَنْزِلَةِ النِّجْسِ وَالنَّجَسِ، يُقَالُ‏:‏ ‏{‏إِفْكِهِمْ‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 151‏)‏‏.‏

قالَ عُرْوَةُ‏:‏ كانَتْ عائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ، وَتَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ الَّذِي قالَ‏:‏

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقاءُ

قالَتْ عائِشَةُ‏:‏ فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْراً، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ في قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفكِ، لاَ أَشْعُرُ بِشَيءٍ مِنْ ذلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم اللُّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ «كَيفَ تِيكُمْ‏؟‏» ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذلِكَ يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ حِين نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وَكانَ مُتَبَرَّزَنَا، وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيلاً إِلَى لَيلٍ، وَذلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيباً مِنْ بُيُوتِنَا، قالَتْ‏:‏ وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغَائِطِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بالكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، قالَتْ‏:‏ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَمُّ مِسْطَحٍ، وَهيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ المُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عامِرٍ خالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ المُطَّلِبِ، فَأَقْبَلتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيتِيَ حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِهَا فَقَالَتْ‏:‏ تَعسَ مِسْطَحٌ، فَقُلتُ لَهَا‏:‏ بِئْسَ ما قُلتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ أَي هَنْتَاهْ وَلَمْ تَسْمَعِي ما قالَ‏؟‏ قالَتْ‏:‏ وَقُلتُ‏:‏ ما قالَ‏؟‏ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفكِ، قالَتْ‏:‏ فَازْدَدْتُ مَرَضاً عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم فَسَلَّمَ، ثُمَّ قالَ‏:‏ «كَيفَ تِيكُمْ‏؟‏» فَقُلتُ لَهُ‏:‏ أَتَأْذَنُ

لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ‏؟‏ قالَتْ‏:‏ وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيقِنَ الخَبَرَ مِنْ

قِبَلِهِمَا، قالَتْ‏:‏ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم فَقُلتُ لأُمِّي‏:‏ يَا أُمَّتَاهُ، ماذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ‏؟‏ قالَتْ‏:‏ يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، لَهَا ضَرَائِرُ، إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيهَا‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَقُلتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهذا‏؟‏ قالَتْ‏:‏ فَبَكَيتُ تِلكَ اللَّيلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قالَتْ‏:‏ وَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيدٍ، حِينَ اسْتَلبَثَ الوَحْيُ، يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُما في فِرَاقِ أَهْلِهِ، قالَتْ‏:‏ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم بِالَّذي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ في نَفسِهِ، فَقَالَ أُسَامَةُ‏:‏ أَهْلَكَ، وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيراً‏.‏ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم بَرِيرَةَ، فَقَالَ‏:‏ «أَي بَرِيرَةُ، هَل رَأَيتِ مِنْ شَيءٍ يَرِيبُكَ‏؟‏» قالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ‏:‏ وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما رَأَيتُ عَلَيهَا أَمْراً قَطُّ أَغْمِصُهُ، غَيرَ أَنَّهَا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قالَتْ‏:‏ فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيَ، وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ‏:‏ «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ في أَهْلِي، وَاللَّهِ ما عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيراً، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيهِ إِلاَّ خَيراً، وَما يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي»‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فَقَالَ‏:‏ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ، فَإِنْ كانَ مِنَ الأَوْس ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ، أَمَرْتَنَا فَفَعَلنَا أَمْرَكَ‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَقَامَ

رَجُلٌ مِنَ الخَزْرَجِ، وَكانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، قالَتْ‏:‏ وَكانَ قَبْلَ ذلِكَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ‏:‏ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كانَ مِنْ رَهْطِكَ ما أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ‏:‏ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، قالَتْ‏:‏ فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، حَتَّى هَمّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم قائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، قالَتْ‏:‏ فَلَمْ يَزَل رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم يُخَفِّضُهُمْ، حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قالَتْ‏:‏ فَبَكَيتُ يَوْمِي ذلِكَ كُلَّهُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، قالَتْ‏:‏ وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيتُ لَيلَتَينِ وَيَوْماً، لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، حَتَّى إِنِّي لأَظُنُّ أَنَّ البُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي، فَبَينَا أَبَوَايَ جالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قالَتْ‏:‏ فَبَينَا نَحْنُ عَلَى ذلِكَ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم عَلَينَا فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ‏:‏ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لاَ يُوحى إِلَيهِ في شَأْنِي بِشَيءٍ، قالَتْ‏:‏ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قالَ‏:‏ «أَمَّا بَعْدُ، يَا عائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ

بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيهِ»‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَلَمَّا قَضى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى ما أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلتُ لأَبِي‏:‏ أَجِبْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم عَنِّي فِيما قالَ، فَقَالَ أَبِي‏:‏ وَاللَّهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم فَقُلتُ لأُمِّي‏:‏ أَجِيبِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم فِيما قالَ، قالَتْ أُمِّي‏:‏ وَاللَّهِ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم فَقُلتُ، وَأَنَا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ كَثِيراً‏:‏ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هذا الحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، لاَ تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَرَفتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُنِّي، فَوَاللَّهِ لاَ أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ قالَ‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 18‏)‏‏.‏ ثُمَّ تَحَوَّلتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلكِنْ وَاللَّهِ ما كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنزِلٌ في شَأْنِي وَحْياً يُتْلَى، لَشَأْنِي في نَفسِي كانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَوَاللَّهِ ما رَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم مَجْلِسَهُ،

وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيهِ، فَأَخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنَ العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ، وَهُوَ في يَوْمٍ شَاتٍ، مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيهِ، قالَتْ‏:‏ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قالَ‏:‏ «يَا عائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ»‏.‏ قالَتْ‏:‏ فَقَالَتْ لِي أُمِّي‏:‏ قُومِي إِلَيهِ، فَقُلتُ‏:‏ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيهِ، فَإِنِّي لاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قالَتْ‏:‏ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 11‏)‏ العَشْرَ الآياتِ‏.‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ هذا في بَرَاءَتِي، قالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ‏:‏ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيئاً أَبَداً بَعْدَ الَّذِي قالَ لِعَائِشَةَ ما قالَ‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 22‏)‏‏.‏ قالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏:‏ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كانَ يُنْفِقُ عَلَيهِ، وَقالَ‏:‏ وَاللَّهِ لاَ أنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً، قالَتْ عائِشَةُ‏:‏ وَكانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم سَأَلَ زَينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ لِزَينَبَ‏:‏ «ماذَا عَلِمْتِ، أَوْ رَأَيتِ‏؟‏» فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إِلاَّ خَيراً، قالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ وَهيَ الَّتِي كانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم

فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ‏.‏ قالَتْ‏:‏ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ‏.‏

قالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَهذا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ هؤلاَءِ الرَّهْطِ‏.‏

ثُمَّ قالَ عُرْوَةُ‏:‏ قالَتْ عائِشَةُ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ ما قِيلَ لَيَقُولُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ما كَشَفتُ مِنْ كَنَفِ أُنْثى قَطُّ، قالَتْ‏:‏ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذلِكَ في سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

قالَ ابْنُ أَبِي مُلَيكَةَ‏:‏ وَكانَتْ أَعْلَمَ مِنْ غَيرِهَا بِذلِكَ، لأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا‏.‏

وَقالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمانُ بْنُ فَرْقَدٍ‏:‏ سَمِعْتُ هِشَاماً، عَنْ أَبِيهِ قالَ‏:‏ سَبَبْتُ حَسَّانَ، وَكانَ مِمَّنْ كَثَّرَ عَلَيهَا‏.‏

حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ *** وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ

فَقَالَتْ لَهُ عائِشَةُ‏:‏ لكِنَّكَ لَسْتَ كَذلِكَ‏.‏ قالَ مَسْرُوقٌ‏:‏ فَقُلتُ لَهَا لِمَ تأْذَنِي لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيكِ وَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 11‏)‏ فَقَالَتْ‏:‏ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ العَمى‏؟‏ قالَتْ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ كانَ يُنَافِحُ- أَوْ يُهَاجِي- عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم

4141- قوله‏:‏ ‏(‏فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا‏)‏، وإنما كان ذلك لتطييب خاطرهُنَّ، وإلاَّ فالقَسَمُ غيرُ واجبٍ عند الخروج إلى السَّفَرِ‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏بَعْدَما أُنْزِلَ الحِجَابُ‏)‏ ويُخَالِفُهُ بعض الألفاظ‏.‏ ولكنَّك عَرَفْتَ منِّي أنِّي لا أقتحمُ في مثل هذه المواضع، وعلى الشَّارِحِين أن يتوجَّهُوا إليه‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏حِينَ فَرَغْنَا‏)‏، وفيه بعض الرِّوايات‏:‏ «حين خَرَجْنَا إلى البِرَازِ، فَرَجَعْتُ، ولم أَقْضِ حاجتي»‏.‏ فهذا مُعَارِضٌ لذاك‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏تَعِسَ مِسْطَحٌ‏)‏ وهو ابنُ خالةٍ لأبي بكرٍ، وتَعِسَ‏:‏ أي كُبَّ بوجهه‏.‏ وإنما دَعَتْ على مِسْطَحٍ عند كبوتها، لأن من طريق الإِنسان أنه إذا أهمَّه أمرٌ بتذكَّره في كلِّ شأنه، وينتقل إليه لكونه بمرأى عينيه‏.‏ فلمَّا كان مِسْطَحُ أخذ نصيبه من الإِفْكِ، وكان ساءها ذلك، تذكَّرت عند كبوتها، لأن العثورَ لمَّا حَصَلَ لشغلها بهذا الهمِّ، فكأنه حَصَلَ من جهة مِسْطَح، فَدَعَتْ عليه‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏فَقَالَ لِسَعْدٍ‏:‏ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلُهُ‏)‏ وذِكْرُ سعدٍ ههنا وَهْمٌ، لأنه قُتِلَ في غزوة الخَنْدَق، وكانت قبل قصة الإِفْكِ‏.‏ وإنما ثَارَ الحيَّان‏:‏ الأَوْسُ، والخَزْرَجُ، لأن الخزرجيَّ زَعَمَ أن سعداً الأوسيَّ إنما أشار بقتل الخزرجيِّ زعماً منه أنه ليس له حامٍ، فأخذته الحميَّة، فقال‏:‏ لَعَمْرِ الله لا تقتله، فعند ذلك ثار الحيَّان‏.‏ ولم يَكُنْ نظرهم إلى خصوص معاملة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ما هي فلا إشكالَ فيمن جادل عن أخيه الخزرجيِّ، فإن الظاهرَ أن لا تتشتَّت كلماتهم فيمن خَاضَ في أهل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ونال من عِرْضِهِ‏.‏ ولكن الخزرجيَّ لم يَنْظُرْ إلى خصوص معاملة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكنه نَظَرَ إلى أن الأوسيَّ يرى أنه ضعيفٌ لا حامي له، فَلَحِقَ به، وبأهل قبيلته، هوانٌ وذلٌّ، فأخذته الحميَّةُ، فقال ما قال‏.‏

وأمَّا قوله‏:‏ «كَذَبْتَ»، فهو نظراً إلى أن قوله‏:‏ «إن كان من الأَوْسِ نقتله»، لم يَكُنْ عن جذر قلبٍ منه، بل لأنه زَعَمَ أن القائلَ ليس من قبيلته، بل من الخَزْرَجِ، فلو كان من الأَوْسِ لم يَقُلْ ما قال، ولِذَا قال له‏:‏ كَذَبْتَ‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏وإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فاسْتَغْفِرِي اللَّهَ‏)‏ وفي الفقهِ‏:‏ أن من أَسْرَفَ على نفسه، فاقْتَرَفَ معصيةً، لا يجب عليه أن يَذْهَبَ بها إلى القاضي، وإن رآه الشهداء على ذلك الحال، وظنُّوا أنه وَقَعَ فيها اتفاقاً، ولم يتعمَّدها، ولا تعوَّدها يُسْتَحَبُّ لهم الستر أيضاً، فقولُه لها محمولٌ على الديانة‏.‏ ثم إن معاملة هؤلاء الذين خَاضُوا في قصة الإِفْكِ إنما طَالَتْ، لأنه لم يَكُنْ نَزَلَ فيها حكمٌ بَعْدُ، فلمَّا نزل الوحيُ حُدَّ القاذفون حدَّهم، وانقطع الحديث‏.‏

فائدة‏:‏ والحكمةُ الإِلهِيَّةُ في إجراء تلك القصة في بيت النبوة، بيانُ صبرِ النبيِّ، وثباتهِ على أحكام الشرع، وعدمِ مجاوزته عن الحدود‏:‏ «فإنَّ سَعْداً لمَّا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن رجل يرى على امرأته رجلاً، ولم يَجِدْ عليهِ بيِّنةً‏:‏ كيف يفعل‏؟‏ قال له‏:‏ إنه يأتي بالبيِّنة، أو يُحَدُّ حدَّ القذف، فقال له سعدٌ‏:‏ ولكنِّي واللَّهِ أضْرِبُهُ بالسيف، غير مُصْفِحٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم انظروا إلى غَيْرَةِ سعدٍ، وأنا أَغْيَرُ منه، والله أَغْيَرُ منِّي»، ثم نَزَلَ اللِّعَان، فَكَشَفَ اللَّهُ سبحانه أنه لم يَقُلْهُ لسعدٍ فقط، بل لما ابْتُلِيَ به ترقَّب الوحيَ بنفسه أيضاً، ولم يَعْجَلُ في أمره، ولا احتال لِدَرْئِهِ‏.‏

ثُمَّ إنِّي أجد أنه ما من نبيَ إلاَّ وقد ابْتُلِيَ من جهة النساء قبله أيضاً، وذلك لأنهم أشدُّ الناس بلاءً، وأشدَّه ما يأتي على المرء من قبل عشيرته، وأهل بيته‏.‏ فآدمُ لاَمَهُ ربُّه من أجل حواء عليهما الصلاة والسلام‏.‏ وأمَّا نوح عليه الصلاة والسلام، فلم تَكُنْ زوجتُهُ مؤمنةً‏.‏ وأمَّا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فاضطر إلى الخروج من أجل الخصومة بين سارة وهاجر عليهما السلام‏.‏ وكذلك ما وَقَعَ لموسى عليه الصلاة والسلام في الخُطْبَة، حيث قذفته امرأةٌ، وكان قارون أَمَرَهَا به‏.‏ وقد ابْتُلِي عيسى عليه الصلاة والسلام من جهة أمِّهِ حيث اتَّهمُوها ممَّا يَعْلَمُ اللَّهُ أنها كانت بريئةً منه‏.‏ ونحوه وقع للوط عليه الصلاة والسلام أيضاً‏.‏ فأَصَابَ امرأته ما أَصَابَ قومه‏.‏

فتلك سُنَّةٌ قد أتت على من قبله من الرُّسل أيضاً، لِيَرَى اللَّهُ سبحانه بها صبرَ أنبيائه، واستقامتَهم على الحقِّ، وثباتَهم على الدين، عليهم الصلاة والتسليم، وسيجيءُ بعضُ الكلامِ عن قريبٍ‏.‏

ثم اعلم أنه يُعْلَمُ من البخاريِّ‏:‏ أن حسَّانَ كان مِمَّن خَاضَ في حديث الإِفْكِ، ولكن يُعْلَمُ من أبياته أنه لم يَفِهْ به أصلاً، حيث يَمْدَحُهَا، ويُبَرِّىءُ نفسه عمَّا رُمِيَ بهِ، فيقول‏:‏ كما سيجيءُ‏:‏

حَصَانٌ رَزَانٌ، ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ *** وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ

قوله‏:‏ ‏(‏حَصَانٌ‏)‏‏:‏ عفت والى هى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رَزَانٌ‏)‏‏:‏ وقار والى هى بهارى بهر كم هى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غَرْثَى‏)‏، أي جائعة، لأنها لا تَغْتَابُ النساءَ الغافلات‏.‏ وفي قصيدته‏:‏

فإنْ كُنْتُ قد قُلْتُ الذي قد زَعَمْتُمْ، *** فلا رفعت صوتي إليّ أنامل

وحَمَلَ الحافظُ‏:‏ أن هذا التشبيبُ في بيته‏:‏ قلتُ‏:‏ كلاَّ، بل هو في عائشةَ، كما يَدُلُّ عليه سائر أباته‏.‏ ثُمَّ إن الذي تولَّى كِبْرَهُ هو عبد الله بن أبيّ، رأس المنافقين، على ما اختاره المفسِّرون‏.‏ ويُعْلَمُ من البخاريِّ أنه حَسَّان، كما يجيء من قول عائشة فيه‏:‏ «وأيُّ عذابٍ أشدُّ من العَمَى‏؟‏» فهو عندي من باب تلقِّي المُخَاطَب بما لا يترقَّبُ، وإلاَّ فالآيةُ نَزَلَتْ في عبد الله بن أبي بالاتفاق، كما قالته هي رضي الله تعالى عنها‏:‏ «أنه عبد الله»‏.‏ وإنما غَضِبَتْ عائشةُ على عليَ، وحسَّان لأجل التسليم لا غير‏.‏

والعبرةُ عندي بأخذ قول حسَّان نفسه، ولا عِبْرَةَ بما يُذَاعُ بين الناس، ويُشَاع، فإن حالَ الخبط في الأخبار معلومٌ‏.‏ وبالجملة نسبة القذف إليه عندي خلافُ التحقيق، وكذا من جعله مِصْدَاقاً لقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 11‏)‏ باطلٌ عندي‏.‏ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏)‏، وراجع لبلاغته «شرح الأشموني للألفية»‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏وَهِيَ التي كانت تُسَامِينِي‏)‏، تعني به أن زَيْنَبَ هي التي كانت تساويها منزلةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلو كانت امْتَنَعَتْ عن براءتي لحقَّ لها، على سنَنِ الضَّرَائر، ولكنَّها لو رعِها ذَبَّتْ عنِّي، ولم تَقُلْ فيَّ إلاَّ خيراً‏.‏

4141- قوله‏:‏ ‏(‏ما كَشَفْتُ مِنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ‏)‏، يعني ما جَامَعْتُ امرأةً، وإن نَكَحَ بعد ذلك، كما يَدُلُّ عليه ما عد أَبي داود، عن أبي سعيدٍ، قال‏:‏ «جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن عنده، فقالت‏:‏ زوجي صَفْوان بن المُعَطَّلِ، يَضْرِبُني إذا صلَّيت، ويُفَطِّرُني إذا صُمْتُ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

4142- قوله‏:‏ ‏(‏عن الزُّهْرِيِّ قال‏:‏ قال لي الوَلِيدُ بن عَبْدِ المَلِكِ‏:‏ أَبَلَغَكَ أن عَلِيّاً كَانَ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ‏؟‏‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، كان لعبد الملك أربع بنين‏:‏ سليمان، وهشام، والوليد، ويزيد؛ والأوَّلان صالحان، والآخران خبيثان، وكانوا كلُّهم خلفاء‏.‏

4142- قوله‏:‏ ‏(‏كَانَ عَلِيٌّ مُسَلِّماً‏)‏‏:‏ دهيلى، والأحسنُ- كما في الهامش- مُسِيئاً بدله، ومعناه‏:‏ كجه همدردى كرنى والى نه تهى‏.‏ وكان الوليدُ بصدد تحقيق أمر عليّ في عائشةَ، فسأل الزهريَّ عنه‏.‏ وإنما لم يُجِبْهُ الزهريُّ بما يستحقُّه، وأَلاَنَ في الكلام، لأن الوليدَ كان حاكماً، ولو كان غيره لشدَّد له في الكلام‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ الحُدَيبِيَة

قالَ أَبُو دَاوُدَ‏:‏ حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ قَتَادَةَ‏.‏ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ‏.‏

تَابَعَهُ الأَعْمَشُ‏:‏ سَمِعَ سَالِماً‏:‏ سَمِعَ جابِراً‏:‏ أَلفاً وَأَرْبَعَمِائَةِ‏.‏

وَعَنْ عَمِّهِ قَالَ‏:‏ بَلَغَنَا حِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلّم أَنْ يَرُدَّ إِلَى المُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ‏:‏ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ‏.‏

باب‏:‏ قِصَّةِ عُكْلٍ وَعُرَينَة

قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم بَعْدَ ذلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهى عَنِ المُثْلَةِ‏.‏

وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبَانُ وَحَمَّادٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ مِنْ عُرَينَةَ‏.‏ وَقَالَ يَحْيىبْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَأَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ‏:‏ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ‏.‏

قَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيبٍ، عَنْ أَنَسٍ‏:‏ مِنْ عُرَينَةَ‏.‏ وَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ‏:‏ مِنْ عُكْلٍ، ذَكَرَ القِصَّةَ‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ ذَاتِ القَرَد

وَهيَ الغَزْوَةُ الَّتِي أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِ النبي صلى الله عليه وسلّم قَبْلَ خَيبَرَ بِثَلاَثٍ‏.‏

أَنَا ابْنُ الأَكْوَعْ *** اليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ

وَأَرْتَجِزُ، حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً، قَالَ‏:‏ وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم وَالنَّاسُ، فَقُلتُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ حَمَيتُ القَوْمَ المَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَابْعَثْ إِلَيهِمُ السَّاعَةَ، فَقَالَ‏:‏ «يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم عَلَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلنَا المَدِينَةَ‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ خَيبَر

اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَينَا *** وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّينَا

فَاغْفِرْ فِدَاءً لكَ مَا أَبْقَينَا *** وَأَلقِيَنْ سَكِينَةً عَلَينَا

وَثَبّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَينَا *** إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَينَا

وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَينَا

فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «مَنْ هذا السَّائِقُ‏؟‏»‏.‏ قَالُوا‏:‏ عامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، قَالَ‏:‏ «يَرْحَمُهُ اللَّهُ»‏.‏ قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ‏:‏ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ، فَأَتَينَا خَيبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيهِمْ، فَلَمَّا أَمْسى النَّاسُ مَسَاءَ اليَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَا هذهِ النِّيرَانُ‏؟‏ عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُوقِدُونَ‏؟‏» قَالُوا‏:‏ عَلَى لَحْمٍ، قَالَ‏:‏ «عَلَى أَيِّ لَحْمٍ‏؟‏» قَالُوا‏:‏ لَحْمِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا»‏.‏ فَقَالَ رجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَنُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ «أَوْ ذَاكَ»‏.‏ فَلَمَّا تَصَافَّ القَوْمُ كَانَ سَيفُ عَامِرٍ قَصِيراً، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيّ لِيَضْرِبَهُ، وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيفِهِ، فَأَصَابَ عَينَ رُكْبَةِ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ‏:‏ رَآنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي قَالَ‏:‏ «مَا لَكَ‏؟‏» قُلتُ لهُ‏:‏ فدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ‏؟‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأَجْرَينِ- وَجَمَعَ بَينَ إِصْبَعَيهِ- إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشى بِهَا مِثْلَهُ»‏.‏ حَدَّثَنَا قُتَيبَةُ‏:‏ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، قَالَ‏:‏ «نَشَأَ بِهَا»‏.‏

وَقالَ

وَقالَ الزُّبَيدِيُّ‏:‏ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ‏:‏ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ‏:‏ أَنَّ عُبَيدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلّم خَيبَرَ‏.‏

قالَ الزُّهْرِيُّ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدٌ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم

قالَ أَبُو بُرْدَةَ‏:‏ قالَتْ أَسْماءُ‏:‏ فَلَقَدْ رَأَيتُ أَبَا مُوسى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هذا الحَدِيثَ مِنِّي‏.‏

قَالَ أَبو عَبْدِ الله‏:‏ الضَّالُ السِّدْرُ‏.‏

باب‏:‏ اسْتِعْمَالِ النبي صلى الله عليه وسلّم عَلَى أَهْلِ خَيبَر

باب‏:‏ مُعَامَلَةِ النبي صلى الله عليه وسلّم أَهْلَ خَيبَر

باب‏:‏ الشَّاةِ التَّيِ سُمَّتْ للِنبي صلى الله عليه وسلّم بِخَيبَر

رَوَاهُ عُرْوَةُ، عَنْ عائِشَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم

باب‏:‏ غَزْوَةِ زَيدِ بْنِ حارِثَة

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بَعَثَهُ إلى مُؤْتة، وكان سمَّى ثلاثةَ أنفاٍ، لِيُؤَمِّرَ واحداً، إذا اسْتَشْهَدَ آخر، فاستشهد زيدٌ، وجعفرُ، وعبدُ الله بن رَوَاحة رضي الله عنهم، ثم فَتَحَهَا اللَّهُ على خالدٍ‏.‏ وأَخْرَجَ له البخاريُّ قصةَ مرض موته صلى الله عليه وسلّم وهي بعد موتة بكثيرةٍ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أَمَّرَ فيها أُسامةَ، واسْتَتْبَعَ ذلك ذكر زيد أبيه أيضاً‏.‏

باب‏:‏ عُمْرَةِ القَضَاء

ذَكَرَهُ أَنَسٌ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم

باب‏:‏ غَزْوَةِ مُوتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّأْم

وهي في السنة السابعة بعد الهجرة النبوية‏.‏

4251- قوله‏:‏ ‏(‏فَكَتَبَ‏:‏ هَذَا ما قَاضَى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وفي إسنادِ فعلِ الكتابة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بحثٌ‏:‏ أنه إسنادٌ إلى المباشر، أو الآمر، فلم يَنْفَصِلْ بعدُ، وفي ذلك قد ابْتُلِي القاضي أبو الوليد الباجي، وكان يدَّعي‏:‏ أن هذا القدرَ من الأحرف كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم كَتَبَهُ بيده الكريمة‏.‏

قلتُ‏:‏ ولفظ الراوي‏:‏ «وليس يُحْسِنُ الكتابةَ»، يُؤَيِّدُه أي تأييدٍ، وإن كان الأمر لا يَنْفَصِلُ منه أيضاً، فإن الرواةَ يعبِّرون بكل نحوٍ‏.‏ فلا تُبْنَى عليه مسألةٌ، ولا تنقض منه مسألة، ولا يَنْكَشِفُ الأمر ما لم يَنْكَشِفْ حالُ الإِسنادِ في «كتب» أنه إلى المباشر، أو الآمر، وذلك غير مُنْكَشِفٍ‏.‏

وبالجملة لمَّا ادَّعى القاضي بما ادَّعى، أَفْتَى المالكيةُ بقتله، لكونهم متشدِّدين في هذا الباب، فقالوا‏:‏ إنه سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وإنما عَدُّوه سبّاً، لأن القرآنَ لقَّبه أميّاً، والكتابة خلافه‏.‏ فقام للذَّبِّ عنه أحدٌ من الكباب من هذا المجلس، وقال‏:‏ لا سبيلَ لكم إلى قتله، فإنه ادَّعى الكتابة معجزةً منه صلى الله عليه وسلّم فلا يُخَالِفُ ادِّعَاءَ القرآن بكونه أُميَّاً، فخلَّى سبيله، بعد أن كان رهنُه قد انْغَلَقَ‏.‏

4254- قوله‏:‏ ‏(‏وما اعْتَمَرَ في رَجَبٍ قَطُّ‏)‏، والرَّجَبُ ههنا مُنْصَرِفٌ لعدم إرادة المتعيَّن منه، وهي مسألة جاءني عمر، وعمر آخر يعينها‏.‏

باب‏:‏ بَعْثِ النبي صلى الله عليه وسلّم أُسَامَةَ بْنَ زَيدٍ إِلَى الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَينَة

واعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان أمر أُسَامَةَ مرَّةً في حياته الطيبة، ومرَّةً أخرى في مرض مَوْتِهِ‏.‏

4269- قوله‏:‏ ‏(‏فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْم‏)‏، أي ليكون إسلامي اليوم هادماً لِمَا سَبَقَ من الخطايا، فَتَدْخُلُ معاتبةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أيضاً فيها، ولم أُؤَاخَذُ بها أيضاً‏.‏ وليستقيم في شرح نحو هذا المقولات، لئلا تَزِلَ قدم بعد ثبوتها، لأنَّ الظاهرَ منه أنه تمنَّى الكفرَ في الزمن الماضي، ورَضِيَ به، وهو كفرٌ‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد عَلِمْتَ أنه ليس فيه رضاءٌ بالكفر، بل فيه إظهارٌ للحزن والحسرة، وإن كان ظاهرُ اللفظ يُشْعِرُ بالأوَّل‏.‏

4271- قوله‏:‏ ‏(‏وغَزَوْتُ مَعَ ابنِ حَارِثَةَ، اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا‏)‏، أي جَعَلَهُ أميراً، وقد يختلط فيه بعضُ الرواة، فتنبَّه له‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ الفَتْحِ وَما بَعَثَ حاطِبُ بْنُ أَبِي بَلتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّة

يُخْبِرُهُمْ بِغَزْوِ النبي صلى الله عليه وسلّم

باب‏:‏ غَزْوَةِ الفَتْحِ فِي رَمَضَان

قالَ‏:‏ وَسَمِعْتُ ابْنَ المُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذلِكَ‏.‏

وَعَنْ عُبَيدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ‏:‏ صَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم حَتَّى إِذَا بَلَغَ الكَدِيدَ- المَاءَ الذِي بَينَ قُدَيدٍ وَعُسْفَانَ- أَفطَرَ، فَلَمْ يَزَل مُفطِراً حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ‏.‏

4274- قوله‏:‏ ‏(‏تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمَوَدَّةِ‏)‏ يعني‏:‏ وه تو تمسى محبت نهين ركهتى- أور تم ادهرسى ركهتى هو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حَتَّى إذا بَلَغَ الكَدِيدَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَفْطَرَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، والحديثُ مُشْكِلٌ على مسائلنا، لأنه لا يَجُوزُ الفِطْر عندنَا للمسافر إذا صام‏.‏ نعم له الخيار بين الفِطْر والصوم من أول النهار، فإن اخْتَارَ الصومَ وَجَبَ له الإتمام‏.‏

قلتُ‏:‏ وفِطْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لم يَكُنْ من باب الرخصة للمسافر، بل هو من بابٍ آخر، وهو أن الإِفطارَ يجوز عندنا للغُزَاةِ إذا خافوا الضعف بدون فصلٍ، كما في «التاتارخانية»‏.‏ وسياق البخاريِّ يُرْشِدُ إليه، وأَصْرَحُ منه ما عند الترمذيِّ، فإنه يَدُلُّ على أن الإِفطارَ إنما كان على الوصف الذي ذكرنا، لا لكونه مسافراً فقط‏.‏

ثم ههنا دقيقةٌ أخرى، وهي أنه من باب ترجيح إحدى العبارتين عند التزاحم، وذلك إلى الشارع، كالصوم والجهاد ههنا، فرجَّح الشارعُ الجهادَ، ورخَّص بإِفطار الصائم‏.‏ وكذا إذا تَعَارَضَ بين الجهاد والصلاة رجَّح الصلاة، وعَلَّم صلاة الخوف‏.‏ وكذلك إذا تَعَارَضَتْ الصلاةُ والحجُّ، أي الوقوف بعرفة رجَّح الحجَّ، فعلَّم الجمع بين الصلاتين فاعلمه، فإنه بابٌ آخر لا يَدْخُلُ فيه القياس‏.‏

4276- قوله‏:‏ ‏(‏وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ ونِصْفٍ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، واعلم أن مكَّةَ فُتِحَتْ السنةَ الثامنةَ على ما هو المشهور‏.‏ وفي السِّيَرِ‏:‏ أنها فُتِحَت بعد السابعة ونصف، ولا اختلافَ بينهما‏.‏ فإنَّ من قال‏:‏ إنها فُتِحَت في الثامنة، أراد به ابتداء الثامنة‏.‏ وهو المرادُ بما في البخاريِّ من قوله‏:‏ «ثمان سنين ونصف»، فإن المرادَ بثمان سنين، أوائل الثامنة، وهذه الزيادة التي على السبع هي التي عبَّر عنها الراوي بالنصف بالعطف، فصار مآله إلى ما في السِّير‏:‏ أنها فُتِحَت في السابعة والنصف، أي وسط الثامنة، فاجْتَمَعَتْ الرواياتُ في ذلك‏.‏ وليس المعنى‏:‏ أنها فُتِحَتْ بعد تمام الثامنة، وأوائل التاسعة، كما فُهِمَ، ومن لم يَفْهَمْهُ جعل يَهْزَأُ بأحاديثَ البخاريِّ، وظَنَّ أن اعتراضَه على البخاريِّ تأييدٌ للحنفية، ولم يَدْرِ أن من سوء فعله هذا يَنْهَدِمُ أساسُ الدين، فإنَّا إذا لم نَثِقْ بأحاديث «الصحيحين»، فأنَّى نَقْتَفِي الدينَ‏؟‏ والعيادُ بالله من الزَّيْغ‏.‏ مع أن الأوهامَ قد كَثُرَت في «الصحيحين» أيضاً، حتَّى صنَّف في ذلك أبو عليّ كتاباً‏.‏ ومن زَعَمَ أن الثقاتِ لا يتأتَّى منهم الوهم، فقد عَجَزَ، واسْتَحْمَقَ‏.‏

وبالجملة ليس مؤدَّاة‏:‏ أنها فُتِحَتْ في التاسعة، فإنه غَلَطٌ قطعاً‏.‏ ثم إن الصحابةَ في فتح مكَّة كانوا عشرة آلاف، وهكذا وقع في التوراة في بعض النُّسخ، إلاَّ أن الممسوخين قد حَذَفُوه من بعض نسخه، لئلا يَصِيرَ الخبرُ ألصق بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم

4277- قوله‏:‏ ‏(‏دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مفطراً في تلك الواقعة من أوَّل النهار، وإنَّما أَرَادَ الآن أَن يُعْلِمَهُمْ أنه ليس بصائمٍ‏.‏ بخلاف ما مرَّ، فإنه كان صائماً، ثم أَفْطَرَ لِيُفْطِرُوا، ويَتَأَهَّبُوا للقتال‏.‏

باب‏:‏ أَينَ رَكَزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم الرَّايَةَ يَوْمَ الفَتْحِ‏؟‏

قالَ عُرْوَةُ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ قالَ‏:‏ سَمِعْتُ العَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيرِ بْنِ العَوَّامِ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ‏؟‏‏.‏

قالَ‏:‏ وَأَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم يَوْمَئِذٍ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيلِ خالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ‏:‏ حُبَيشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ‏.‏

واعلم أن الطُّلَقَاء هم الذين لم يُسْتَرَقُوا، ولم يقتلوا، بل أطلقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم

4280- قوله‏:‏ ‏(‏بني عَمْرٍو‏)‏‏:‏ أي بني قُبَاء‏.‏

4280- قوله‏:‏ ‏(‏فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، ولم يَكُنْ دَخَلَ في الإِسلام يومئذٍ مُخْلِصاً من قلبه، ثم صار مُخْلِصاً من بعدُ‏.‏

4280- قوله‏:‏ ‏(‏احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الخَيْلِ‏)‏- يعني‏:‏ جهان كهورون كى بهير هووهان كهرا كرو‏.‏

4280- قوله‏:‏ ‏(‏كَتِيبةً كَتِيبةً‏)‏‏:‏ دسته دسته، ثم جاءت كَتِيبَةٌ، وهي أقلُّ الكتائب، فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه‏.‏ وإنَّما جَعَلَ نفسه في أقلِّها هَضْماً لنفسه، وتجنُّباً عن صورة التجبُّر والخيلاء، وتخشُّعاً عند ربه‏.‏ وفي الروايات‏:‏ «أنه لمَّا دنى من مكَّة طأطأ رأسه حتَّى أَلْزَقَهُ بعنق ناقته، وصار كهيئة الراكع والساجد، فدخل مكَّة هكذا، متذلِّلاً متواضعاً، طالباً للنُّصْرَةِ من القويِّ العزيز، مسبِّحاً مهلِّلاً، داعياً وهو الذي كان فَعَلَهُ عند مروره بديار ثمود‏.‏

فتلك أنبياءُ اللَّهِ تعالى عليهم الصلاة والسَّلام، هم أعرفُ بآداب العُبُودِيَّةِ يَجْأَرُون إلى الله في جملة أمورهم، يَذْكُرُون الله في جملة أحوالهم، في الهزيمة والنصر سواء‏.‏ حتَّى رَأَيْتُ عالماً نصرانياً قد أقرَّ في كتابٍ له‏:‏ أن ما من دينٍ سماويَ يكون فيه ذكر الله أكثر من دين محمّد صلى الله عليه وسلّم فإنه لا تَخْلُو صفحةٌ من القرآن إلاَّ وفيها اسم الله، بنحوٍ من الأنحاء، بخلاف سائر الكتب‏.‏ وقد عُرِفَ من أمره صلى الله عليه وسلّم أنه كان يَذْكُرُ اللَّهَ في كلِّ أحيانه، وقد عَلِمْتَ شَرْحَهُ‏.‏

4280- قوله‏:‏ ‏(‏حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ‏)‏ وهذا من، ألفاظ العَجُز، يعني‏:‏ كيا اجها هى دن بناه كا ثم إن الحَجُون، والمُحَصَّب، والأَبْطَح، وخَيْف بني كِنانة، كلَّها اسمُ موضعٍ واحدٍ‏.‏

4280- قوله‏:‏ ‏(‏ودَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من كُدَا‏)‏ ويقولُ راوٍ آخرَ‏:‏ إنه دَخَلَ من كَدَاء‏:‏ أعلى مكَّةَ، وهو الصوابُ عندي، وراجع الهامش‏.‏

4286- قوله‏:‏ ‏(‏ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ‏)‏، وكان الشَّقيُّ، من الستة الذين كانوا يَسْتَهْزِئُونَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم

4286- قوله‏:‏ ‏(‏ولَمْ يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيما نُرَى- والله أعلم- يَوْمَئِذٍ مُحْرِماً‏)‏ فيه إشارةٌ إلى أن دخولَ مكَّةَ بدون إحرامٍ لم يَكُنْ جائزاً عندهم أيضاً، وهو مذهبُ الحنفية‏.‏

4287- قوله‏:‏ ‏(‏فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ في يَدِهِ‏)‏ وفي السِّيَرِ‏:‏ أن تلك التصاوير كانت منقوشةً على جدار البيت، فأمر عليّاً أن يَرْكَبَ على كاهله، ويَمْحُوَهَا، فَأَبَى أن يَفْعَلَهُ أدباً، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يَتْرِكْهُ إلاَّ أن يَرْكَبَ عليه ويَمْحُوَهَا‏.‏

4288- قوله‏:‏ ‏(‏فَكَبَّرَ في نَوَاحِي البَيْتِ‏)‏، وقد مرَّ الاختلافُ في صلاته صلى الله عليه وسلّم في البيت، وما هو التحقيق فيه‏.‏

باب‏:‏ دُخُولِ النبي صلى الله عليه وسلّم مِنْ أَعْلَى مَكَّة

تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيبٌ في كَدَاءٍ‏.‏

باب‏:‏ مَنْزِلِ النبي صلى الله عليه وسلّم يَوْمَ الفَتْح

وهذا هو الصوابُ، وما مرَّ كان وَهْماً من الراوي، وقَلْباً منه‏.‏

باب

قَالَ أَبو عَبْدِ الله‏:‏ الخَرْبَةُ البَلِيَّةُ‏.‏

4293- قوله‏:‏ ‏(‏كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ‏:‏ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي‏)‏ وإنما أَخْرَجَ هذا الحديثَ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بعد نزول سورة النصر جعل تلك الكلمات وظيفةً لنفسه، قائماً وقاعداً، وفي شأنه كلِّه، يتأوَّلُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ ‏(‏النصر‏:‏ 3‏)‏‏.‏ وهذا يَدُلُّ على أنه ينبغي للإِنسان أن يَرْغَبُ في آخر عمره في الصالحات، أزيد ممَّا كان يَرْغَبُ فيها أولاً‏.‏ وفيه أيضاً‏:‏ أن بين الفتح، والمغفرة تَنَاسُباً، فإنَّ اللَّهَ تعالى إذا عزَّ رسولَه بالفتح، دَلَّ على أن للمفتوح عليه وَجَاهَةً عند ربه، ومغفرةً وفوزاً‏.‏

ويُشْكِلُ عليه ما في «الكشاف»‏:‏ أن سورةَ النصر نَزَلَتْ قبل وفاته صلى الله عليه وسلّم بأربعين يوماً، وقد كانت مكَّة فُتِحَتْ في الثامنة، فكيف يَسْتَقِيمُ ‏{‏إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏(‏النصر‏)‏، فإن ‏{‏إِذَا‏}‏ للاستقبال، مع كون الفتح ماضٍ‏.‏ وقد كَشَفَ عنه الرَّضِيُّ، حيث قال‏:‏ إن تلك الفاء ليست جزائيةً، بل أَبْرَزَهُ في شاكلة الشرط والجزاء فقط، وفصَّلته في رسالتي «عقيدة الإِسلام في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام»‏.‏

باب‏:‏ مُقَامِ النبي صلى الله عليه وسلّم بِمَكَّةَ زَمَنَ الفَتْح

4297- قوله‏:‏ ‏(‏أَقَمْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عشراً‏)‏، والظاهرُ أنه في حِجَّة الوَدَاعِ‏.‏

4298- قوله‏:‏ ‏(‏أقَامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ‏)‏، وهذا في فتح مكَّةَ، والإِقامةُ إذا كانت بنيَّة السَّفَر غداً، أو بعد غدٍ لا تُوجِبُ الإِتمام، ولو كانت إلى السنين‏.‏ على أن إقامتَه في هذا السفرِ مختلفٌ فيها، وما يتحقَّق بعد المراجعة إلى ألفظاه أنها كانت خمسة عشر أيام‏.‏ وقد مرَّ الكلامُ فيه‏.‏ وبالجملةِ‏:‏ ليس في توقيت المدَّةِ شيءٌ من المرفوع لأحدٍ، ولذا اخْتَلَفُوا فيه‏.‏

باب

قالَ‏:‏ قالَ لِي أَبُو قِلاَبَةَ‏:‏ أَلاَ تَلقَاهُ فَتَسْأَلَهُ‏؟‏ قالَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلتُهُ فَقَالَ‏:‏ كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ‏:‏ ما لِلنَّاسِ، ما لِلنَّاسِ‏؟‏ ما هذا الرُّجُلُ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحى إِلَيهِ‏.‏ أَوْ‏:‏ أَوْحى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذلِكَ الكَلاَمَ، وَكَأَنَّمَا يُغْرَى في صَدْرِي، وَكانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمُ الفتْحَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ‏:‏ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم حَقّاً، فَقَالَ‏:‏ «صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا كَذَا في حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَليُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَليَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً»‏.‏ فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَينَ أَيدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ اْلحَيِّ‏:‏ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قارِئِكُمْ‏؟‏ فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصاً، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحي بِذلِكَ القَمِيصِ‏.‏

وَقالَ اللَّيثُ‏:‏ حَدَّثَني يُونُسُ‏:‏ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ‏:‏ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ‏:‏ أَنَّ عائِشَةَ قالَتْ‏:‏ كانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيه سَعْدٍ‏:‏ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقالَ عُتْبَةُ‏:‏ إِنَّهُ ابْنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم مَكَّةَ في الفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ صلى الله عليه وسلّم وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ‏:‏ هذا ابْنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ‏.‏ قالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا أَخِي، هذا ابْنُ زَمْعَةَ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ‏.‏ فَنَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «هُوَ لَكَ، هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ»‏.‏ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «احْتَجبي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ»‏.‏ لِمَا رَأى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ‏.‏

قالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ قالَتْ عائِشَةُ‏:‏ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعَاهِرِ الحَجَرُ»‏.‏ وَقالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ وَكانَ أَبُو هُرَيرَةَ يَصِيحُ بِذلِكَ‏.‏

أخرج تحته حديثين، والغرضُ منه‏:‏ أن عبد الله بن ثَعْلَبَة، وأبا جَمِيلَةَ صحابيَّان صغيران قد أدركا النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يوم فتح مكَّة‏.‏

4302- قوله‏:‏ ‏(‏فَكَأَنما يَقْرَأُ في صَدْرِي- وفي نسخةٍ- يُغْرَى في صَدْرِي- بالغين‏)‏ أي يَلْصَقُ، وهذا هو الظاهرُ، ونسخةُ الكتاب تَحْتَاجُ إلى تأويلٍ، وراجع الهامش‏.‏ والظاهرُ أن يُقَالَ‏:‏ إن «يقرأ» ههنا نَزَلَ منزلة اللازم‏.‏

4302- قوله‏:‏ ‏(‏فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهم، وأَنا ابنُ سِتَ، أَوْ سَبْعٍ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفيه قصورٌ، إذ عمرُهُ المذكورُ عند التحقيق كان لأخذ القرآن لا لإِمامته‏.‏ وهكذا بيعته أيضاً، كان بعدما بلغ الحُلُم‏.‏ وقد قصر الراوي في التعبير‏.‏ وأمَّا قوله‏:‏ «ألا تُغَطُّوا عنَّا أَسْتَ قارِئِكُمْ‏؟‏» فهو واردٌ عليكم، وعلينا، فنحن فيه سواء‏.‏ وراجع «الإِصابة في معرفة الصحابة»‏.‏ ثم إن عمرَهُ هذا لو كان في فتح مكَّة، فما معنى قوله‏:‏ «فكُنْتُ أحفظُ ذلك الكلامَ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

4303- قوله‏:‏ ‏(‏هُوَ أَخُوكَ يا عَبْدَ بنَ زَمْعَةَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وقد مرَّ الكلامُ فيه مفصَّلاً من قبل، فلا نُعِيدُهُ‏.‏

4304- قوله‏:‏ ‏(‏أنَّ امْرَأةً سَرَقَتْ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وكانت تَسْتَعِيرُ الأَمْتِعَةَ، وتَجْحَدَهَا‏.‏ وقد بَحَثَ فيه الطحاويُّ‏.‏ والمحقَّقُ‏:‏ أنها كانت تَقْتَرِفُ النوعين، وإنما القطعُ للسرقة فقط‏.‏ وقد اعْتَرَضَ بعضُهم على أن قطعَ اليد غيرُ معقولٍ، كما في شعر نُسِبَ إلى أبي العلاء المعرِّي‏:‏

يدٌ بخمس مئين عَسْجَدٍ وُدِيَتْ *** ما بَالُهَا قُطِعَتْ في رُبْعِ دِينَارٍ‏؟‏

فأجابه القاضي عبد الوهَّاب المالكي‏:‏

عِزُّ الأمانةِ أَغْلاَهَا وأَرْخَصَهَا، *** ذِلُّ الخُيَانَةِ، فافهم حِكْمَةَ الباري

4311- قوله‏:‏ ‏(‏لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ‏)‏، أي الهجرة التي كانت من مكة إلى المدينة، لأن مكَّةَ صارت دارَ الإِسلام‏.‏ أمَّا الهجرةُ من دارَ الحرب إلى دار الإِسلام مطلقاً، فانْتَفَتْ اليومَ أيضاً، وذلك لعزَّة دار الإِسلام في زماننا، فأين هو لَنُهَاجِرَ إليه، فإن الأرضَ قد مُلِئَتْ ظلماً وجَوْراً‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 25- 27‏)‏‏.‏

قالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيرٌ‏:‏ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم عَنْ بَغْلَتِهِ‏.‏

وحَدَّثَنَي محمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ‏:‏ لَمَّا قَفَلنَا مِنْ حُنَينٍ، سَأَلَ عُمَرُ النبي صلى الله عليه وسلّم عَنْ نَذْرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الجَاهِلِيَةِ، اعْتِكَافٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بِوَفَائِهِ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنَ عُمَرَ‏.‏

وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم

لمَّا فَرَغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عن فتح مكَّةَ ذهب إليهم، وكان الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم إذ ذاك أكثرَ كثيرٍ، فقالوا‏:‏ لا نَعْجَزُ اليومَ‏.‏ وتلك هي الكلمة التي انْهَزَموا لأجلها، وإليها أَشَارَتْ الآيةُ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وحُنَيْن‏:‏ وادٍ عند الطائف، كانت تَسْكُنُ فيها هَوَازِنُ، وكانوا رُمَاةً‏.‏ والسِّيَرِ‏:‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رمى قبضة من تُرَابٍ في وجوههم، فلم يَبْقَ منهم رجلٌ، إلاَّ وقد أصاب منه في عينيه‏.‏ وكانت بَغْلَتُهُ صلى الله عليه وسلّم تَهْوِي إلى الأرض إذ كان يُرِيدُ أن يَأْخُذَ كفّاً من التُّرَاب، فإذا أَخَذَهَا قَامَتْ‏.‏

4315- قوله‏:‏ ‏(‏فَأَشْهَدُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ‏)‏، والعِبْرَةُ في المعركة للأمير، وأمَّا الجيشُ، فإنه قد يكون له انتشارٌ، وتشتتٌ، وتفرُّقٌ أيضاً، ولكن العبرة بالأمير‏.‏

4317- قوله‏:‏ ‏(‏وإنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا‏)‏ وهذا من فطرته السليمة، حيث أضاع عمره في هجاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلمَّا أَسْلَمَ وأخلص له، أَظْهَرَ من شدَّته، وثباته في الدين ما لم يُظْهِرْهُ الآخرون، فلم يَبْرَحْ موضعه، ولم يَرُعْهُ رشقُ نبلِ هَوَازِن، حتى تَقَشَّعَ بعضُ الناس، ولكنه بَقِي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم آخذاً بلِجَامِ بغلته‏.‏ ثُمَّ إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بعدما فَرَغَ من حُنَيْن مَكَثَ بالجِعِرَّانة نحو خمسة عشر يوماً، يَرْقُبُهُمْ أنهم إن جاءوا مسلمين، يَرُدُّ الله إليهم سَبْيَهُم وأموالَهم، فلم يَفْعَلُوا‏.‏ حتَّى إذا قَسَمَهَا بينهم، جاءوا إليه يَطْلُبُون أموالَهم وسَبْيَهُمْ، فكان من أمرهم كما في الحديث‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ أَوْطَاس

وهي أيضاً وادٍ عند الطائف‏.‏ فَأَوْطَاسُ، وحُنَيْنُ، والطَّائِفُ، كلُّها مواضعٌ متقاربةٌ‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةِ الطَّائِف

في شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، قالَهُ مُوسىبْنُ عُقْبَةَ‏.‏

قالَ ابْنُ عُيَينَةَ‏:‏ وَقالَ ابْنُ جُرَيجٍ‏:‏ المُخَنَّثُ‏:‏ هِيتٌ‏.‏

وَقالَ هِشَامٌ‏:‏ وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، أَوْ أَبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ قالَ‏:‏ سَمِعْتُ سَعْداً وَأَبَا بَكْرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ عَاصِمٌ‏:‏ قُلتُ‏:‏ لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلاَنِ حَسْبُكَ بِهِمَا، قالَ‏:‏ أَجَل، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّم ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الطَّائِفِ‏.‏

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم حَاصَرَ أهلَ الطَّائِفِ، فلم يُفْتَحْ لَهُ، فَرَجَعَ منها‏.‏

4326، 4327- قوله‏:‏ ‏(‏سَمِعْتُ‏.‏‏.‏‏.‏ وأَبَا بَكْرَةَ، وكَانَ تَسَوَّرَ حصن الطائف‏)‏، واعلم أنه من خَرَجَ إلينا من عبيد الكُفَّارِ عُتِقَ عند إمامنا‏.‏ فكان أبو بَكْرَةَ، وأصحابُه عبيداً لأهل الطائف، فقرُّوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فجعلهم أحراراً، ولم يَرُدَّهُمْ إلى مواليهم حين جاءوا يَطْلُبُونَهم، فقال له مواليهم‏:‏ إنهم ما جَاءُوا عندك رغبةً في الإِسلام، ولكن فِرَاراً مِنَّا‏.‏

ثم إن أَبا بَكْرَةَ غيرُ مُنْصَرِفٍ، كأبي هريرة، فإنه لمَّا جُعِلَ عَلَماً لم يُلاَحَظْ فيه معنى الإِضافة، وصار كأنه لفظٌ واحدٌ، فلا يُلاَحَظُ فيه أن بَكْرَةَ كان ابنَهُ، فهو كأبي حَمْزَةَ، كنية أنس، وكان يجيء بتلك البَقْلَة، كذلك أبو بَكْرَةَ، سُمِّيَ به لكونه تسوَّر الحصن بالبَكْرَةِ‏.‏ فتلك الأَعْلاَمُ يُعَامَلُ معها، كأنها أعلامٌ من قبل، ولذا مُنِعَ صرفُها‏.‏

4326، 4327- قوله‏:‏ ‏(‏مَنِ ادَّعَى إلى غَيْرِ أَبِيهِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهذا تعريضٌ بالأمير معاوية، حيث كان يَدْعُو زياداً أخاه، وكان مَقْذَفاً في الحروب، فكان الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم يَدْعُونَهُ زياد ابن أبيه‏.‏

4328- قوله‏:‏ ‏(‏رَدَّ البُشْرَى، فَاقْبَلاَ أَنْتُما‏)‏، واعلم أن البِشَارَةَ كالأعيانِ المحسوسةِ، فإذا لم يَقْبَلْهَا الأعرابيُّ رُدَّت إلى الآخرين‏.‏ فهي وإن كانت من المعاني الصِّرْفَةِ عندنا التي لا تَصْلُحُ للتحوُّل والانتقال، ولكنها من الأعيان عند صاحب النبوة، وأرباب الحقائق‏.‏ وكذلك حالُ الأعمال في نظرِ الشَّرْعِ، فإنها تَتَجَسَّدُ، كالجواهر في المَحْشَرِ‏.‏ وقد تحقَّق اليومَ‏:‏ أنا لأصواتَ كلَّها منذ بَدْء الزمان موجودةٌ في الجو، ولم يَتَلاَشَ منها شيءٌ‏.‏ ودَعْ عنك ما حقَّقه الفلاسفةُ، فإنهم يؤمنون بما ثَبَتَ عندهم من دلائلهم الفاسدة، وهم بالأدلَّة السماوية يَكْفُرُونَ‏.‏ وعَلَيْكَ بالماء النمير، والصدق البحث الذي لا تَشُوبُهُ سَفْسَطَةٌ، ولا يأتيه الباطلُ من بين يديه، ولا من خلفه‏.‏

فالأعمالُ كلُّها تجيء في صورها- وسورة البقرة- وآل عمران- يتشكل بالظلة، أو كما أَخْبَرَ به الصادقُ المصدوقُ‏.‏ وقد شَغَفَ الناسُ بالفلسفة دَهْراً، ثم لم يَنْجَحُوا، وتشبَّثْنَا بذيل الشرع، فأفلحنا، ووجدنا منه في لمحاتٍ ما لم يَجِدُوه بعد صرف الأعمار‏.‏ وعندي هم أعجزُ من جاهلٍ أوتِي سلامة الفطرة، ورُزِقَ توفيقاً من ربِّه‏.‏

حكايةٌ‏:‏ سَمِعْتُ ببلدتي كشمير، وأنا إذ ذاك ابنُ أربع سنين‏:‏ أن رجلين تكلَّما في أن العذابَ هو يكون للسجد، أو الروح‏؟‏ فاستقرَّ رأيهما على أن العذابَ لهما‏.‏ ثم ضَرَبَا له مثلاً، فقالا‏:‏ إن مثلَ الجسد مع الروح كمثل أعمى، وأعرج، ذَهَبَا إلى حديقةٍ لِيَجْنُوا من ثمارها، فَعَجَزَ الأعمى أن يَرَاهَا، وعَجَزَ الأعرجُ أن يَجْنِيَهَا، فتشاورا في أمرهما، فَرَكِبَ الأعرجُ على الأعمى، فجعل الأعمى يَذْهَبُ به إلى الأشجار، والأَعْرَجُ يرى الثمارَ، ويَجْنِيها‏.‏ فهذا هو حالُ البدن مع الروح، فإن البدنَ بدون الروح جمادٌ لا حِرَاكَ له، والرُّوحُ بدون البدن معطَّلةٌ عن الأفعال، فاحتاج أحدُهما إلى الآخر، فلمَّا اشتركا في الكَسْبِ اشتركا في الأجر، أو الوِزْرِ أيضاً‏.‏ وبعد مرور خمس وثلاثين سنة، رأيتُ في «القرطبي»، عن ابن عبَّاس عينَ ما قالاه من قطرتهما، فانظر هل يُمْكِنُ مثله من نحو أرسطو‏؟‏ كلا، ثم كلا‏.‏

4330- قوله‏:‏ ‏(‏سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثْرَةً‏)‏ يعني‏:‏ أمَّا أنا فما، آثَرْتُ نفسي عليكم، وسَتَلْقَوْنَ بعدي أُثْرَةً، فاصبروا‏.‏

4330- قوله‏:‏ ‏(‏فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني عَلَى الحَوْضِ‏)‏ واعلم أن الحوضَ عند ابن القيِّم‏:‏ في المحشر‏.‏ واختار الحافظ‏:‏ أنه بعد الصِّرَاط‏.‏ وتردَّد فيه السيوطي في «البدور السافرة»‏.‏ والأَرْجَحُ عندي ما اختاره الحافظ‏.‏ والظاهر عندي‏:‏ أنه في فِنَاء الجنة بعد الحساب، لأن المواعدةَ باللقاء على الحوض تَدُلُّ على أنه بعد اختتام السفر، فإن الذين يتخلَّفون من رفقاء السفر، لا يَتَلاَقَوْنَ إلاَّ بعد اختتامه‏.‏

4336- قوله‏:‏ ‏(‏ما أُرِيدَ بَهَذِهِ القِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ‏)‏ وهذه كلمةُ كفرٌ، ولما كان قائلُها منافقاً، وكان من سُنَّتِهِم أن لا يُقْتَلُوا، أَغْمَضَ عنه، ولم يَقْتُلْهُ‏.‏ وقد مرَّ فيه بعضُ الكلام‏:‏ أنه من باب الجمع بين التكوين والتشريع، فإنه كان أَخْبَرَ بأن سَيَخْرُجُ من ضئضيء هذا قومٌ يَقْرَءُون القرآن‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، كما في «البخاري» مفصّلاً، فلم يُنَاسِبْ أن يَقْتُلَهُ بنفسه‏.‏ وهذا بخلاف ما مرَّ عن بعض الصحابة من الأنصار عن قريبٍ‏:‏ «يَغْرِفُ اللَّهُ لرسوله صلى الله عليه وسلّم يُعْطِي قريشاً، ويَتْرُكُنَا، وسيوفُنَا تَقْطُرُ من دمائهم»، فإنه إساءةٌ في التعبير فقط، مع صحةٍ في العقيدة‏.‏ غير أنه حَمَلَتْهُم على ذلك غيرةٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم لمَّا فَهِمُوا من إعطائه قريشاً أنه يُؤْثِرُهم عليهم، والرقابة قد تَحْمِلُ المرءُ على مثل هذه التعبيرات‏.‏ وهذا وإن كان غلطٌ منهم في حضرة النبوة، ولكنها لا رَيْبَ مما قد يُرَكِّبُها الإِنسانُ من حيث لا يريدها، ولا يدريها‏.‏ وراجع للفصل بين هذه المسائل رسالتي «إكفار الملحدين»، ففيها البسطُ بما لا مزيدَ عليه‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ إذا كان بين الصحابة المنافقون، والمُخْلِصُون، ولم تتميَّز إحدى الطائفتين من الأخرى، فكيف أمرُ الدين، الذي بَلَغَ إلينا‏؟‏ قلتُ‏:‏ قد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَعْلَمُهُمْ، وكذا بعضُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ إلاَّ أن المصلحةَ لم تَكُنْ بإِفشاء سرِّهم، فَتُرِكُوا على إبطانهم، وحسابُهم على الله‏.‏

4337- قوله‏:‏ ‏(‏أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وغَطَفَانُ وغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ‏)‏، وهذا على عادتهم، فإنَّ العربَ كانوا يَذْهَبُون في الحروب بنَعَمِهِمْ أيضاً، لِيَشْرَبُوا من أَلبانها‏.‏

باب‏:‏ السَّرِيَّةِ الَّتِي قِبَلَ نَجْد

4338- قوله‏:‏ ‏(‏ونُفِّلْنَا بَعِيراً بَعِيراً‏)‏ واخْتُلِفَ في النَّفْلِ أنه من الخُمُسِ، أو الغنيمة‏.‏ ويَجُوزُ التنفيل عندنا من الغنيمة أيضاً قبل أن تُحْرَزَ إلى دار الإِسلام، ولا يَجُوزُ بعده إلاَّ من الخُمُسِ‏.‏ ومن قَصَرَهُ على الخُمُسِ، فقد رَكِبَ على جبلٍ وَعْرٍ‏.‏ ثم إن الحافظَ قد تصدَّى إلى بيان العدد المجموع، فَذَكَرَهُ، ولعلَّه أَخْرَجَهُ من طريق الحساب، وإلاَّ فلا روايةَ فيه صراحةً فيما أعلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ بَعْثِ النبي صلى الله عليه وسلّم خالِدبْن الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَة

4339- قوله‏:‏ ‏(‏صَبَأْنَا‏)‏، أي خَرَجْنَا عن ديننا، وقد مرَّ في أوائل الكتاب‏:‏ أن الصَّابئين من هُمْ‏؟‏ وقد غَلِطَ فيه الحافظُ ابن تَيْمِيَة، فَسَهَا في شرح الآية أيضاً، كما مرَّ‏.‏ وأصاب فيه الجصَّاص في «أحكام القرآن»‏.‏

4339- قوله‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، مرتين‏)‏، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه، ويُنْقِذَهَا من عذاب الله إن هَجَمَ عذابه على فعله هذا، والعياذ بالله من قتل المؤمن‏.‏ وهذا هو فعلُ الخائفِ المشفق المبتهل، وأمَّا المغترُّ، فإنه يَطْمَئِنُّ، ويتمنَّى على الله‏.‏ ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بَعَثَ إليهم عليّاً، وأعطاهم نصف الدية لكلِّ مَنْ قُتِلَ منهم‏.‏ وهذا عندي محمولٌ على نحو مصالحةٍ، فإنَّهم وإن لم يُطَالِبُوه صلى الله عليه وسلّم بشيءٍ، لكنه لم يَرْضَ أن يَهْدِرَ دَمَهُمْ‏.‏

حكايةٌ‏:‏ نُقِلَ أنه كان فيمن قُتِلُوا رجلٌ تائهٌ، وكان يَنْشِدُ في تلك الليلة أنه مقتولٌ في صَبِيحَتِها، فلمَّا أَصْبَحَ قُتِلَ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «هلاَّ لاَحِمْتُمُوه، ولعلَّ حبَّة لم يَكُنْ في معصيةٍ»‏.‏

باب‏:‏ سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَعَلقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ المُدْلِجِي

وَيُقَالُ‏:‏ إِنَّهَا سَرِيَّةُ الأَنْصَارِ‏.‏

4340- قوله‏:‏ ‏(‏لو دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، لكون فعلهم قطعيّ البطلان‏.‏ وقد عَلِمْتَ أن المحلَّ إذا كان مما يَصْلُحُ للاجتهاد، لا يُعَنِّفُ عليه الشارع‏.‏ وأمَّا إذا كان الأمرُ ظاهراً، ثم يَتَسَاهَلُ فيه أحدٌ يَزْجُرُ عليه، ويَغْضَبُ، كما رَأَيْتُ ههنا‏.‏

ثم إنه نظيرُ ما ذَكَرْتُ في قاتل النفس‏:‏ أنه يُعَذِّبُ بتلك الآلة إلى يوم القيامة‏.‏ والتخليدُ الواردُ في حقِّه هو التخليدُ إلى يوم الحشر، يعني‏:‏ لا يزال يَفْعَلُهُ حتَّى يُبْعَثَ من مضجعه هذا‏.‏ ومرَّ عليه الترمذيُّ، وعلَّل الحديثَ الصحيحَ، لكون التخليد ليس مذهباً لأهل السُّنَّةِ والجماعة، وفي الحديث تصريحٌ بما قلتُ، فإنهم لو دَخَلُوهَا لكانوا من قاتلي أنفسهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أنهم لم يَخْرُجُوا منها إلى يوم القيامة»، فهذا هو التخليدُ‏.‏

وبعبارةٍ أخرى‏:‏ التخليدُ كان راجعاً إلى فعله، فَصَرَفُوه إلى نفسه، ولَطُفَ هذا التعبير، لأنه إذا لم يَزَلْ معذَّباً في البَرْزَخ حتَّى قامت الآخرة، وانقطع البَرْزَخُ لَطُفَ التخليد فيه، فإنه كان باعتبار قيام البَرْزَخ‏.‏ وإذا انْهَدَمَ نفسخ البَرْزَخِ، وآل الأمرُ إلى الآخرة انقطع عذابُه أيضاً‏.‏ نعم لو انقطع العذابُ مع قيام البَرْزَخِ لناقض ما قُلْنَا، وليس كذلك‏.‏ فافهم، فإن أمثال الترمذيِّ لم يُدْرِكُوا مراده، حتَّى اضْطَرُّوا إلى تعليله‏.‏ وسيمرُّ عليك نظائره وشواهده‏.‏

باب‏:‏ بَعْثُ أَبِي مُوسى وَمُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاع

رَوَاهُ جَرِيرٌ وَعَبْدُ الوَاحِدِ، عَنِ الشَّيبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ‏.‏

قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ طَوَّعَتْ طَاعَتْ وَأَطَاعَتْ لُغَةٌ، طِعْتُ وَطُعْتُ وَأَطعْتُ‏.‏

زَادَ مُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرٍو‏:‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم بَعَثَ مُعَاذاً إِلَى اليَمَنِ، فَقَرَأَ مُعَاذٌ في صَلاَةِ الصُّبْحِ سُورَةَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا قالَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ قالَ رَجُلٌ خَلفَهُ‏:‏ قَرَّتْ عَينُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

4341، 4342- قوله‏:‏ ‏(‏وبَعَثَ كُلَّ وَاحدٍ مِنْهُمَا على مِخْلاَفٍ‏)‏، وهو اسمٌ لتحديد بقاعٍ عند أهل اليمن، فتسمَّى مَخَالِيف اليمن‏.‏ وراجع لتفصيله «معجم البلدان» لياقوت‏.‏ ومن أهم فوائد «معجمه»‏:‏ أنه جمع فيه الجمعات التي كانت أُقِيمَتْ في اليمن، فلم يكتبها إلاَّ في عدَّة مواضع منها‏.‏ وهذا يُفِيدُ الحنفيةُ في مسألة إقامة الجمعات في الأمصار دون القرى‏.‏

4341، 4342- قوله‏:‏ ‏(‏أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقاً‏)‏ وهو مشتقٌّ من الفواق، يعني به أنه وزَّع قراءته على حصص الليل، فيقرأه حِصَّةً حِصَّةً، وجزءً جزءً‏.‏

4341، 4342- قوله‏:‏ ‏(‏وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئي مِنَ النَّوْمِ‏)‏ يعني أقرأُ كلَّ ما أُرِيدُهُ مرَّةً واحدةً، ثم أنام، ولا أَقْرَأُ مثلك جزءً جزءً‏.‏

4343- قوله‏:‏ ‏(‏والمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ‏)‏ ومع كون هذه الأشربة من الحبوب، لمَّا سُئِلَ عنه أبو بُرْدة؛ قال‏:‏ كلُّ مسكرٍ حرامٌ، فانسحب عمومُه على الأشربة كلِّها بدون تخصيص‏.‏ وهذا الذي يَرِيبُني في المسألة‏.‏

4343- قوله‏:‏ ‏(‏كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ‏)‏ وهذا هو مذهبُ الجمهور‏:‏ أن كلَّ مسكرٍ مائعٍ حرامٌ، قليلُه وكثيرُه سواء، خمراً كان أو غيره‏.‏ إلاَّ أن أبا حنيفة، وأبا يوسف ذهبا إلى حرمة الخمر مطلقاً، وفصَّلُوا في أشربة الحبوب‏.‏ ولم أَجِدْ في هذه المسألة جواباً شافياً، وراجع «عقد الفريد» و«كشف الأسرار»، فقد ذكرا قيوداً في المسألة تُفِيدُنا في الباب‏.‏ وراجع «البحر المحيط»، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبي بكر النحَّاس، تلميذ الطحاويِّ، وهو عند أصحاب الطبقات مثل ابن جرير الطبريِّ في المرتبة‏.‏

4348- قوله‏:‏ ‏(‏لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، يعني‏:‏ قاله رجلٌ في الصلاة لمَّا سَمِعَ مُعَاذاً يَقْرَأ في الصلاة‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 125‏)‏، ولم يَكُنْ يَعْلَمُ أن الكلامَ يُفْسِدُ الصلاةَ‏.‏ فراجع صحيح مسلم مع زيادةٍ فيه‏.‏

باب‏:‏ بَعْثُ علِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَخالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَاإِلَى اليَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاع

زَادَ مَحمَّدُ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ‏:‏ قالَ عَطَاءٌ‏:‏ قالَ جابِرٌ‏:‏ فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسِعَايَتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «بِمَ أَهْلَلتَ يَا عَلِيُّ‏؟‏» قالَ‏:‏ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم قَالَ‏:‏ «فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَاماً كَمَا أَنْتَ»‏.‏ قالَ‏:‏ وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْياً‏.‏

4349- قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ شَاءَ منهم أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ، فَلْيُعَقِّبْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ والتعقيبُ‏:‏ هو معاقبةُ الجيوش فيما بينهم، أي من شاء منهم أن يُقِيمَ هناك فَلْيَفْعَلْ، ومن شاء أن يَرْجِعَ معك، فَلْيَرْجِعْ‏.‏ تعقيب فوجون كى آبس مين مبادله كى نوبتين يعني جو وهان رهنا جاهين وهين رهين اورجووابس آنا جاهين وابس آجائين‏.‏

4350- قوله‏:‏ ‏(‏وكُنْتُ أُبْعِضُ عَلِيّاً‏)‏ يعني به عدم المؤانسة منه، أي‏:‏ كوئى مانوسى نه تهى‏.‏

4350- قوله‏:‏ ‏(‏وقَدِ اغْتَسَلَ‏)‏، وزَعَمَ أنه اغْتَسَلَ من الجنابة، لأنه وطىء جاريةً قبل الخمس‏.‏

4351- قوله‏:‏ ‏(‏في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ‏)‏ أي مدبوغ بالقَرَظِ‏.‏

4351- قوله‏:‏ ‏(‏لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا‏)‏، يعني أن تلك الذُّهَيْبَة لم تُخَلَّصْ من تراب المعدن‏.‏

4351- قوله‏:‏ ‏(‏إنَّهُ يَخْرُجُ من ضِئْضِيء هَذَا‏)‏، وهذا هو العملُ بالتكوين، يعني لمَّا قدَّر بقاءه لم يقتله، كما فعل في ابن صيَّاد، وقال لعمر‏:‏ «إن يكن هو، فلست صاحبه»‏.‏ أو كما قال‏:‏ «يَمْرُقُون من الدين»‏:‏ مرق جت سى نكل كيا والمروقُ‏:‏ خروجُ شيءٍ من موضعٍ لا يكون موضعاً لخروجه، فَيُخْرُجُ منه بنحو مدافعةٍ من خلفه، كالاندلاق‏.‏

4351- قوله‏:‏ ‏(‏لا يُجِاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ‏)‏ قيل‏:‏ معناه لا يُجَاوِزُ حناجرَهم حتَّى يَدْخُلَ قلوبَهم، وقيل‏:‏ لا يُجَاوِزُ حناجرَهُم فَيَصْعَدُ إلى السماء، وهذا هو الأَوْلَى‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةُ ذِي الخَلَصَة

قالَ‏:‏ وَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ اليَمَنَ، كانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلاَمِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم هَاهُنَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ، قالَ‏:‏ فَبَينَما هُو يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيهِ جَرِيرٌ، فَقَالَ‏:‏ لَتَكْسِرَنَّهَا وَلَتَشْهَدَنَّ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَوْ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ‏.‏ قالَ‏:‏ فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلاً مِنْ أَحْمَسَ يُكْنى أَبَا أَرْطَاةَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلّم يُبَشِّرُهُ بِذلِكَ، فَلَمَّا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، ما جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قالَ‏:‏ فَبَرَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم عَلَى خَيلِ أَحْمَسَ وَرِجالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ‏.‏

واعلم أن النصارى لمَّا تسلَّطُوا على اليمين رأوا أن العربَ يَطُوفُونَ بالكعبة شرَّفها اللَّهُ تعالى، ويَحُجُونَها‏.‏ فبنوا بيتاً مضاهاةً لها، وسَمَّوْهَا كعبةً يمانيةً، تمييزاً عن الكعبة شرَّفها الله تعالى، فإنها يُقَالُ لها الشامية‏.‏ وقد جَمَعَ الراوي في ذي الخَلَصَةِ بين الوصفين‏.‏ فقيل‏:‏ إن الصوابَ اليمانيةُ فقط، ووصفُها بالشامية غَلَطٌ‏.‏ ووجهُ الحافظ‏:‏ الجمع أيضاً‏.‏

قلتُ‏:‏ قوله‏:‏ «ذو الخَلَصَةِ والكعبةُ اليمانيةُ» معطوفٌ ومعطوفٌ عليه، وتمَّت العبارةُ إلى ههنا‏.‏ ثم قوله‏:‏ «والكعبةُ الشاميَّةُ» ليس معطوفاً على ما قبله، بل مبتدأٌ وخبرٌ، أي والكعبةُ يُقَالُ لها‏:‏ الشاميةُ‏.‏ وإن جَعَلْتَهُ معطوفاً، فالمعنى‏:‏ إن ذا الخَلَصَةِ كانت تُدْعَى باليمانية، وكذا بالشامية تمييزراً لها عن الكعبة المكرَّمة التي بمكَّة، فإنها كانت تُدْعَى الكعبة مطلقاً‏.‏

وفي السِّيَر‏:‏ أن أَبْرَهَةَ لمَّا خَرَجَ إلى مكَّةَ، وأقام بالمُزْدَلِفَةِ، قال الناسُ لعبد المطَّلب‏:‏ لو كلَّمته فينا‏.‏ فجاء إليه، فلمَّا رآه، وقَّره أَبْرَهَةُ، وسأله عمَّا جاء به إليه، فقال‏:‏ إن أَذِنْتَ لنا خرجنا بنَعَمِنَا، وغَنَمِنَا، فلمَّا سَمِعَ منه تلك الكلمة، وعَلِمَ أنه ليس له همٌ إلاَّ في إنقاذ غنمه ونَعَمِهِ، قال‏:‏ إنك أحمقٌ، تكلِّمني في غنم، فقال له عبد المطَّلب‏:‏ نعم، فإنه ليس لي إلاَّ الغنم‏.‏ وأمَّا البيتُ، فإنه يَحْفَظُهُ ربُّه بنفسه، وما لي أن أتكلَّم فيه‏.‏

4356- قوله‏:‏ ‏(‏كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ‏)‏ خارشتى اونت كوتار كول لكاتى هين- ايساكالا كر كى جهورديا أي أسودَ مرباداً، كالجمل الأَجْرَبِ، يُطْلَى بالقار‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلاَسِل

وَهيَ غَزْوَةُ لَخْمٍ وَجُذَامَ، قَالَهُ إِسْماعِيلُ بْنُ أَبِي خالِدٍ‏.‏

وَقالَ ابْنُ إِسْحاقَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ‏:‏ هِيَ بِلاَدُ بَلِيّ، وَعُذْرَةَ، وَبَنِي القَينِ‏.‏

وهي اسمُ ماءٍ نحو الشام‏.‏

4358- قوله‏:‏ ‏(‏فَقُلْتُ‏:‏ أيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ‏)‏ لمَّا بعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أميراً على ذات السَّلاَسِل، زَعَمَ أن له وجاهةً عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك، طمعاً في أنه يفضِّلُهُ عليهم‏.‏ فَعَدَّ رجالاً، ثم سَكَتَ مخافةَ أن يَجْعَلَهُ في آخرهم‏.‏ وهذا شأنُ الأنبياء عليهم السَّلام، لا يتكلَّمُون إلاَّ بحقَ في المَنْشَطِ، والمَكْرَهِ‏.‏

باب‏:‏ ذَهَابُ جَرِيرٍ إِلَى اليَمَن

4359- قوله‏:‏ ‏(‏لَئِنْ كَانَ الذي تَذْكُرُ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكَ، لَقَدْ مَرَّ عَلَى أَجَلِهِ منذُ ثَلاَثٍ‏)‏ كان ذُو عَمْرٍو كاهناً، فقال من كهانته ما قال، ومع هذا سَأُسَافِرُ إليه طَمَعاً في بقائه وحياته‏.‏ وهذا يَدُلُّ على أن الكاهنَ لا يكون له اعتماد على خبره، وإلاَّ لَمَا سافر إليه‏.‏ وأمَّا قوله‏:‏ «من أتى كاهناً»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فهو عندي إذا أتاه يظنُّه صادقاً، وإلاَّ فلا‏.‏

باب‏:‏ غَزْوَةُ سِيفِ البَحْرِ، وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيراً لِقُرَيشٍ،وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ رضيَ الله عَنْه

قالَ جابِرٌ‏:‏ وَكانَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيدَةَ نَهَاهُ‏.‏

وَكانَ عَمْرٌو يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ‏:‏ أَنَّ قَيسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لأَبِيهِ‏:‏ كُنْتُ فِي الجَيشِ فَجَاعُوا، قَالَ‏:‏ انْحَرْ، قَالَ‏:‏ نَحَرْتُ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ جاعُوا، قالَ‏:‏ انْحَرْ، قالَ‏:‏ نَحَرْتُ، قالَ‏:‏ ثُمَّ جاعُوا، قالَ‏:‏ انْحَرْ، قالَ‏:‏ نَحَرْتُ، ثُمَّ جاعُوا، قالَ‏:‏ انْحَرْ، قالَ‏:‏ نُهيتُ‏.‏

باب‏:‏ حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْع

وهذه أيضاً سَرِيَّةٌ بعثها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى ناحيةٍ من البحر، وأمَّر عليها أبا عُبَيْدة، وكان زاد فيها جِرَاباً من حَشَفٍ فقط‏.‏

4360- قوله‏:‏ ‏(‏فإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفي الروايات الآتية اسمها‏:‏ عَنْبَرُ- بدله- ولفظ‏:‏ «الحوت» يُفِيدُ الحنفيةُ في مسألة حيوانات البحر‏.‏ والظَّرِبُ‏:‏ جبلٌ صغيرٌ‏.‏

4361- قوله‏:‏ ‏(‏الخَبَط‏)‏‏:‏ كيكركى صلى الله عليه وسلّم ى‏:‏ أوراقُ السَّمُرَةِ‏.‏

4361- قوله‏:‏ ‏(‏أَنْحَرْ‏)‏‏:‏ أى نحر كيا هوتا‏.‏ فالأمرُ ههنا ليس بمعناه المعروف، بمعنى إحداث الفعل في الحالة الراهنة، بل هو على حدِّ قوله‏:‏ اقرأ، في قصة قراءة أُسَيْد بن حَضَيْر سورة الكهف، يعني أوبرها هوتا‏.‏

باب‏:‏ وَفدُ بَنِي تَمِيم

قالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ غَزْوَةُ عُيَينَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيفَةَ بْنِ بَدْرٍ بَنِي العَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ‏.‏ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِلَيهِمْ، فَأَغَارَ، وَأَصَابَ مِنْهُمْ نَاساً، وَسَبَى مِنْهُمْ نِسَاءً‏.‏

باب‏:‏ وَفدِ عَبْدِ القَيس

قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَكُنْتُ أَضْرِبُ مَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَنْهُمَا‏.‏

قالَ كُرَيبٌ‏:‏ فَدَخَلتُ عَلَيهَا وَبَلَّغْتُهَا ما أَرْسَلُونِي، فَقَالَتْ‏:‏ سَل أُمَّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُمْ، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ ما أَرْسَلُونِي إِلَى عائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يَنْهى عنْهُمَا، وَإِنَّهُ صَلَّى العَصْرَ، ثمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَصَلاَّهُما، فَأَرْسَلتُ إِلَيهِ الخَادِمَ، فَقُلتُ‏:‏ قُومِي إِلَى جَنْبِهِ، فَقُولِي‏:‏ تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهى عَنْ هَاتَينِ الرَّكْعَتَينِ‏؟‏ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي، فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَف قالَ‏:‏ «يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلتِ عَنِ الرَّكْعَتَينِ بَعْدَ العَصْرِ‏؟‏ إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيسِ بِالإِسْلاَمِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَينِ اللَّتَينِ بَعْدَ الظهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ»‏.‏

وقد كَثُرَتْ الوفودُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في التاسعة‏.‏ ولذا يُقَالُ لها‏:‏ عامُ الوفود‏.‏ ويَذْكُرُ المصنِّفُ أيضاً بعضَها‏.‏

4366- قوله‏:‏ ‏(‏لا أَزَالُ أُحِبُّ بني تَمِيمٍ‏)‏، وإنما كان بنو تَمِيمٍ من قوم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان من مُضَرَ، وهؤلاء أيضاً مُضَرِيُّون‏.‏

4367- قوله‏:‏ ‏(‏لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللَّهِ ورَسُولِهِ‏)‏ وهل هذا الفعل لازمٌ، أو متعدِّي‏؟‏ فراجع له «روح المعاني»‏.‏

باب‏:‏ وَفدِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَحَدِيثِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَال

وهي قبيلةُ مُسَيْلَمَةَ‏.‏

4372- قوله‏:‏ ‏(‏أسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم وقد اسْتَشْكَلَ القاصرون لفظ‏:‏ «مع»، لعدم استقامته ههنا، لأن إسلامَه لم يَكُنْ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أصلاً، فتكلَّفوا فيه، كما تكلَّفوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 102‏)‏، حيث زَعَمُوا أنه يُوجِبُ أن تُوجَدَ قابلية السعي فيهما معاً‏.‏ فقالوا‏:‏ إن ‏{‏مَعَهُ‏}‏ متعلِّقٌ بالمصدر، لا بالفعل‏.‏ فَوَرَدَ عليهم إعمال المصدر المعرَّف باللام فيما قبله، وهو مُخْتَلَفٌ فيه‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذا كلُّه في غير موضعه‏.‏ والحقُّ أن لفظَ‏:‏ «مع» لا يقتضي إلاَّ الشركة في الجملة‏.‏ ومَنْ قال لك‏:‏ إن المصاحبةَ فيه لا بُدَّ أن تكونَ مستمرةً، فَيَصْدُقُ لفظ «مع» إذا اجتمع إسلامه مع إسلام النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في وقتٍ ما، ولا يُوجِبُ المصاحبة المستمرة أصلاً‏.‏

4373- قوله‏:‏ ‏(‏قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وقد بَحَثَ في «الفتح» أنه هل رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أو لا‏؟‏ والرواياتُ فيه مضطربةٌ‏.‏ ويُتَبَادَرُ من لفظ البخاريِّ‏:‏ «فأقبلَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أنه رآه‏.‏

قلتُ‏:‏ وفي «الفتح» نقولُ تَدُلُّ على أنه بَقِي جالساً في خيمته، ولم يَخْرُجْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وتكلَّم بواسطة رسوله‏.‏ فالظنُّ بالشقي مثله أن يكونَ اللَّهُ سبحانه حرَّمه عن النظر إلى وجه حبيبه صلى الله عليه وسلّم فلا أُسَلِّمُ الرؤيةَ في حقِّه ما لم أَجِدْ صرائحَ الألفاظ، فإن الأليقَ بشأنه هو الحرمانُ والخسرانُ‏.‏

4376- قوله‏:‏ ‏(‏سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ العُطَارِدِيَّ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهو تابعيٌّ كبيرٌ، يحكي عن قصةٍ في الجاهلية‏.‏

4376- قوله‏:‏ ‏(‏مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ‏)‏ يعني‏:‏ يه مهينه الك كرنى والا هى نيزونكو أي إن رَجَبَ يَنْزِعُ عنهم الرماح، لأنَّهم كانوا لا يغزون فيه، كفعل الروافض في المحرَّم، حيث يَحِدُونَ فيه، فَيَنْزِعُون الحلي عن نسائهم، ويَلْبَسُون ثياباً سوداً‏.‏

فائدةٌ‏:‏ واعلم أن الفعلَ اللازمَ ويَجُوزُ إخراجه مجهولاً في ثلاثة مواضع‏:‏ صِيمَ رمضان، وسِيرَ بزيدٍ، وسِيرَ سيراً‏.‏ ولكن الفعلَ لا يُؤَنَّثُ في الصور كلِّها‏.‏ والضابطةُ‏:‏ أن إسنادَه إن كان إلى ظرفٍ غير مُنْصَرِفٍ، أو إلى الجار والمجرور، أو إلى مصدره، جاز إخراجه مجهولاً‏.‏ وقد جوَّزَهُ بعضُهم في المُنْصَرِفِ، وغير المُنْصَرِفِ تمسُّكاً من قوله‏:‏ وقد حِيلَ بين العير والنَّزَوَان، وبين‏:‏ من الظروف المُنْصَرِفَةِ‏.‏